فصل: سئل عن رجل اشترى عشرة أزواج متاع جملة واحدة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 باب الشركة

 سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جماعة اشتركوا شركة الأبدان بغير رضا بعضهم وعملوا عملا مجتمعين فيه وعملا متفرقين فيه‏.‏ فهل تصح هذه الشركة‏؟‏ وما يستحق كل منهم من أجرة ما عمل‏؟‏ وهل يجوز لمن لا عمل له أن يأخذ أجرة عن عمل غيره بغير رضا من عمل‏؟‏

فأجاب‏:‏ - رضي الله عنه - شركة الأبدان التي تنازع الفقهاء فيها نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يشتركا فيما يتقبلان من العمل في ذمتهما كأهل الصناعات من الخياطة والنجارة والحياكة ونحو ذلك الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمان - ويسمى الأجير المشترك - ويكون العمل في ذمة أحدهم بحيث يسوغ له أن يقيم غيره أن يعمل ذلك العمل والعمل دين في ذمته كديون الأعيان؛ ليس واجبا على عينه كالأجير الخاص‏.‏ فهؤلاء جوز أكثر الفقهاء اشتراكهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد‏.‏ وذلك عندهم بمنزلة ‏[‏شركة الوجوه‏]‏ وهو أن يشتري أحد الشريكين بجاهه شيئا له ولشريكه كما يتقبل الشريك العمل له ولشريكه‏.‏ قالوا‏:‏ وهذه الشركة مبناها على الوكالة فكل من الشريكين يتصرف لنفسه بالملك ولشريكه بالوكالة‏.‏ ولم يجوزها الشافعي بناء على أصله وهو أن مذهبه أن الشركة لا تثبت بالعقد وإنما تكون الشركة شركة الأملاك خاصة فإذا كانا شريكين في مال كان لهما نماؤه وعليهما غرمه ولهذا لا يجوز شركة العنان مع اختلاف جنس المالين ولا يجوزها إلا مع خلط المالين ولا يجعل الربح إلا على قدر المالين‏.‏ والجمهور يخالفونه في هذا ويقولون‏:‏ الشركة نوعان‏:‏ ‏[‏شركة أملاك‏]‏ و ‏[‏شركة عقود‏]‏‏.‏ وشركة العقود أصلا لا تفتقر إلى شركة الأملاك كما أن شركة الأملاك لا تفتقر إلى شركة العقود وإن كانا قد يجتمعان‏.‏ والمضاربة شركة عقود بالإجماع ليست شركة أملاك؛ إذ المال لأحدهما والعمل للآخر وكذلك المساقاة والمزارعة وإن كان من الفقهاء من يزعم أنها من باب الإجارة؛ وأنها خلاف القياس‏.‏ فالصواب أنها أصل مستقل وهي من باب المشاركة لا من باب الإجارة الخاصة وهي على وفق قياس المشاركات‏.‏ ولما كان مبنى الشركة على هذا الأصل تنازعوا في الشركة في اكتساب المباحات؛ بناء على جواز التوكل فيها فجوز ذلك أحمد ومنعه أبو حنيفة‏.‏ واحتج أحمد بحديث سعد وعمار وابن مسعود‏.‏ وقد يقال‏:‏ هذه من النوع الثاني إذا تشاركا فيما يؤجران فيه أبدانهما ودابتيهما‏:‏ إجارة خاصة‏.‏ ففي هذه الإجارة قولان مرويان والبطلان مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد‏:‏ كأبي الخطاب والقاضي في أحد قوليه‏.‏ وقال‏:‏ هو قياس المذهب؛ بناء على أن شركة الأبدان لا يشترط فيها الضمان بذلك الاشتراك على كسب المباح‏:‏ كالاصطياد والاحتطاب؛ لأنه لم يجب على أحدهما من العمل الذي وجب على الآخر شيء وإنما كان ذلك بمنزلة اشتراكهما في نتاج ماشيتهما وتراث بساتينهما ونحو ذلك‏.‏ ومن جوزه قال‏:‏ هو مثل الاشتراك في اكتساب المباحات؛ لأنه لم يثبت هناك في ذمة أحدهما عمل؛ ولكن بالشركة صار ما يعمله أحدهما عن نفسه وعن شريكه‏.‏ كذلك هنا ما يشترطه أحدهما من الأجرة أو شرط له من الجعل‏:‏ هو له ولشريكه‏.‏ والعمل الذي يعمل عن نفسه وعن شريكه‏.‏ وهذا القول أصح لا سيما على قول من يجوز شركة العنان مع عدم اختلاط المالين ومع اختلاف الجنسين‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا‏)‏ وأظن هذا قول مالك‏.‏ وأما اشتراك الشهود فقد يقال‏:‏ من مسألة ‏[‏شركة الأبدان‏]‏ التي تنازع الفقهاء فيها؛ فإن الشهادة لا تثبت في الذمة ولا يصح التوكل فيها حتى يكون أحد الشريكين متصرفا لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والعوض في الشهادة من باب الجعالة؛ لا من باب الإجارة اللازمة؛ فإنما هي اشتراك في العقد؛ لا عقد الشركة؛ بمنزلة من يقول لجماعة‏:‏ ابنوا لي هذا الحائط ولكم عشرة أو إن بنيتموه فلكم عشرة أو إن خطتم هذا الثوب فلكم عشرة‏.‏ أو إن رددتم عبدي الآبق فلكم عشرة‏.‏ وإن لم يقدر الجعل - وقد علم أنهم يعملون بالجعل‏:‏ مثل حمالين يحملون مال تاجر متعاونين على ذلك - فهم يستحقون جعل مثلهم عند جمهور العلماء‏:‏ أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كما يستحقه الطباخ الذي يطبخ بالأجرة والخباز الذي يخبز بالأجرة والنساج الذي ينسج بالأجرة والقصار الذي يقصر بالأجرة وصاحب الحمام والسفينة والعرف الذي جرت عادته بأن يستوفى منفعته بالأجر‏.‏ فهؤلاء يستحقون عوض المثل عند الإطلاق‏.‏ فكذلك إذا استعمل جماعة في أن يشهدوا عليه ويكتبوا خطوطهم بالشهادة يستحقون الجعل فهو بمنزلة استعماله إياهم في نحو ذلك من الأعمال إذا قيل‏:‏ إنهم يستحقون الجعل فيستحقون جعل مثلهم على قدر أعمالهم فإن كانت أعمالهم ومنافعهم متساوية استحقوا الجعل بالسواء والصواب أن هذا الذي قاله هذا القائل صحيح إذا لم يتقدم منهم شركة‏.‏ فأما إذا اشتركوا فيما يكتسبونه بالشهادة فهو كاشتراكهم فيما يكتسبونه بسائر الجعالات والإجارات‏.‏ ثم الجعل في الشهادة قد يكون على عمل في الذمة وللشاهد أن يقيم مقامه من يشهد للجاعل‏.‏ فهنا تكون شركة صحيحة عند كل من يقول بشركة الأبدان وهم الجمهور‏:‏ أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم‏.‏ وهو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار‏.‏ إلا أن يكون الجعل على أن يشهد الشاهد بعينه فيكون فيها القولان المتقدمان‏.‏ والصحيح أيضا جواز الاشتراك في ذلك كما هو قول مالك في أصح القولين؛ لكن ليس لأحد الشريكين أن يدع العمل ويطلب مقاسمة الآخر؛ بل عليه أن يعمل ما أوجبه العقد لفظا أو عرفا‏.‏ وأما إذا أكرههم القضاة على هذه الشركة بغير اختيارهم فهذا ليس من باب الإكراه على العقود بغير حق؛ لأن القضاة هم الذين يأذنون لهم في الارتزاق بالشهادة وذلك موقوف على تعديلهم؛ ليس بمنزلة الصناع الذين يكتسبون بدون إذن ولي الأمر وإذا كان للقضاة أمر في ذلك جاز أن يكون لهم في التشريك بينهم فإنه لا بد من قعود اثنين فصاعدا ولا بد من اشتراكهما في الشهادة؛ إذ شهادة واحد لا تحصل مقصود الشهادة‏.‏ وإذا كان كذلك فالواجب أن يراعى في ذلك موجب العدل بينهم فلا يمتنع أحدهم عن عمل هو عليه ولا يختص أحدهم بشيء من الرزق الذي وقعت الشركة عليه سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز ‏[‏شركة الأبدان‏]‏ فهل يجوز له منع الناس‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار‏.‏ وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على ‏[‏موطئه‏]‏ في مثل هذه المسائل منعه من ذلك‏.‏ وقال‏:‏ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم‏.‏ وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد‏:‏ لا تسمه ‏[‏كتاب الاختلاف‏]‏ ولكن سمه ‏[‏كتاب السنة‏]‏‏.‏ ولهذا كان بعض العلماء يقول‏:‏ إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة‏.‏ وكان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة‏.‏ وكذلك قال غير مالك من الأئمة‏:‏ ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه‏.‏ ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره‏:‏ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه‏.‏ ونظائر هذه المسائل كثيرة‏:‏ مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته وفي بيع المقاثي جملة واحدة وبيع المعاطاة والسلم الحال واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك‏.‏ وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك‏.‏ والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم‏.‏ ومن هذا الباب الشركة بالعروض وشركة الوجوه والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء؛ فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان؛ بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها‏.‏ ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول‏:‏ إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل شارك قوما في متجر بغير رأس مال وقد ذكر بعض الشركاء أن المال غرم‏.‏ فهل يلزم المذكور غرامة‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ إذا اشتركوا على أن بعضهم يعمل ببدنه كالمضارب وبعضهم بماله أو بماله وبدنه وتلف المال أو بعضه من غير عدوان ولا تفريط من العامل ببدنه لم يكن عليه ضمان شيء من المال سواء كانت المضاربة صحيحة أو فاسدة باتفاق العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل عنده قماش كثير فطلب رجل تاجر سفار أن يأخذ ذلك القماش على أن يشتري النصف مشاعا ويبقي النصف الآخر لصاحبه يشتركان فيه شركة عنان ويكون لهذا نصف الربح ولهذا نصف الربح وأخبره برأس المال وزاد عليه من الجانبين زيادة اتفقا عليها واتفقا على أن يسافر إلى الديار المصرية ثم يعود إلى دمشق وإذا لم يصلح له البيع بدمشق يسافر إلى العراق والعجم وكتب وثيقة بالشركة‏:‏ أن المال جميعه بيد هذا المشتري يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي‏.‏ وكتبا أن الشركة كانت بدراهم ولا يمكن إلا بما ذكر ثم لما قدما إلى الإسكندرية فتشاجرا فطلب صاحب القماش منه الثمن وألزمه بأن يقسم القماش ويبيعه هنا بخسارة ويوفيه الثمن‏.‏ فهل هذا البيع الذي اتفقا عليه بشرط الشركة صحيح‏؟‏ أم هو بيع فاسد‏؟‏ وهل له إذا كان شريكا أن يجعله هو الذي يقبض المال ويبيع ويشتري ويأخذ ويعطي‏.‏ فإذا كان البيع فاسدا فليس له إلا عين ماله وقد عمل هذا العامل فيه على أن له نصف الربح‏.‏ فهل له المطالبة بنصف الربح أم لا‏؟‏ وهل له بعد عمل هذا العامل وانتقال القماش من الشام إلى الإسكندرية أن يأخذ القماش ويذهب عمله وسعيه فيه‏؟‏ أم له المطالبة بأجرة عمله‏؟‏ أم بربح مثله‏؟‏ أفتونا‏.‏

فأجاب - رحمه الله - الحمد لله‏.‏ هذه المعاملة فاسدة من وجوه‏:‏ منها الجمع بين البيع والشركة؛ فإن ذلك لا يجوز‏.‏ وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز أن يشرط مع البيع عقدا مثل هذا فلا يجوز أن يبيعه على أن يقرضه وكذلك لا يجوز أن يؤجره على أن يساقيه أو يشاركه على أن يقترض منه ولا أن يبيعه على أن يبتاع منه ونحو ذلك‏.‏ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك‏)‏ ‏[‏كذلك‏]‏ ‏(‏نهى عن بيعتين في بيعة‏)‏ وذلك أنه إذا باعه أو أجره مع القرض فإنه يحابيه في ذلك؛ لأجل القرض والقرض موجبه رد المثل فقط فمتى اشترط زيادة لم تجز بالاتفاق‏.‏ وكذلك المبايعة والمشاركة مبناها على العدالة من الجانبين‏.‏ ولهذا لا يجوز أن يشترط اختصاص أحدهما بربح سلعة معين ولا بمقدار من الربح ولا تخصيص أحدهما بالضمان ومتى بايعه على أن يشاركه فإنه يحابيه؛ إما في الشركة بأن يختص بالعمل وإما في البيع بزيادة الثمن ونحو ذلك فتخرج العقود عن العدل الذي مبناها عليه‏.‏ وأيضا ففي اشتراط المشاركة إلزام المشتري بتصرف خاص ومنعه بما يوجبه العقد المطلق‏.‏ ومثل هذا ممنوع على الإطلاق عند بعض الفقهاء وعند بعضهم إنما يسوغه في مثل اشتراط عتق المبيع أو وقفه عند من يقول به أو غير ذلك مما فيه مصلحة خالية عن مفسدة راجحة؛ بخلاف ما إذا تضمن ترك العدل؛ فإنه لا يجوز وفاقا‏.‏ ومن وجه آخر‏:‏ أن مثل هذه المعاملة إنما مقصودهما في العادة المضاربة بالمال على أن يكون الربح بينهما لكن قد يريد رب المال أن يجعل نصف المال في ضمان العامل وهذا لا يجوز وفاقا لأن الخراج بالضمان وإذا اجتمع ‏[‏البيع والشركة‏]‏ بطلت الشركة وفاقا فيحتال على ذلك بأن يبيع العامل نصف المال؛ ولهذا يجعل المال كله في يده ولو كان المقصود محض الشركة لصنعا كما يصنع شريكا العنان مع كون المال في أيديهما‏.‏ وهذا ‏[‏وجه ثالث‏]‏ فتبطل الشركة وهو اتفاقهما على أن يكون المال بيد أحد الشريكين فقط‏.‏ وأما كون هذه شركة عرض فهذا فيه نزاع؛ لكن الإقرار المكذب المخالف للواقع حرام قادح في الدين‏.‏ وإذا كان كذلك فالمال باق على ملك صاحبه ولو كان شريكا لم يكن له أن يجعل الشريك الآخر هو الذي يتولى العقود والقبوض دونه فإن هذا إنما يكون في المضاربة؛ لا في شركة العنان‏.‏ وإذا كان البيع فاسدا لم يكن له المطالبة بالثمن المسمى لكن إن تعذر رد العين رد القيمة وإن كان قد عمل فيها المشتري الشريك فله ربح مثله في نصيب الشريك؛ فإن الفقهاء متنازعون فيما فسد من المشاركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إذا عمل فيها العامل هل يستحق أجرة المثل‏؟‏ أو يستحق قسط مثله من الربح‏؟‏ على قولين‏:‏ أظهرهما الثاني‏.‏ وهو قول ابن القاسم والعوض في العقود الفاسدة هو نظير ما يجب في الصحيح عرفا وعادة كما يجب في البيع والإجارة الفاسدة ثمن المثل وأجرة المثل وفي الجعالة الفاسدة جعل المثل‏.‏ ومعلوم أن الصحيح من هذه المشاركات إنما يجب فيه قسطه من الربح إن كان لا أجرة مقدرة وكذلك النصيب الذي اشتراه إن قيل‏:‏ يجب رد عينه مع ارتفاع قيمته كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي والإمام أحمد‏.‏ وللعامل المشتري أن يطلب إما أجرة عمله‏.‏ وإما قسط مثله من الربح‏.‏ على اختلاف القولين‏.‏ وأما إن قيل‏:‏ إنه بعد قبضه والتصرف فيه ليس عليه إلا رد القيمة - كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك - فالحكم فيه ظاهر‏.‏ وبكل حال لا يجب عليه رد الزيادة التي زيدت على قيمة المثل - والحالة هذه - بالاتفاق والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل دفع مالا مضاربة ومات فعمل فيه العامل بعد موته بغير إذن الورثة‏.‏ فهل تنفسخ المضاربة‏؟‏ وما حكم الربح بعد موت المالك‏؟‏

فأجاب‏:‏ نعم تنفسخ المضاربة بموت المالك ثم إذا علم العامل بموته وتصرف بلا إذن المالك لفظا أو عرفا ولا ولاية شرعية فهو غاصب‏.‏ وقد اختلف العلماء في الربح الحاصل في هذا‏:‏ هل هو للمالك فقط كنماء الأعيان‏؟‏ أو للعامل فقط‏؟‏ لأن عليه الضمان أو يتصدقان به لأنه ربح خبيث‏؟‏ أو يكون بينهما‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏ أصحها الرابع‏.‏ وهو أن الربح بينهما كما يجري به العرف في مثل ذلك وبهذا حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما أخذه بنوه من مال بيت المال فاتجروا فيه بغير استحقاق فجعله مضاربة وعليه اعتمد الفقهاء في ‏[‏باب المضاربة‏]‏؛ لأن الربح نماء حاصل من منفعة بدن هذا ومال هذا‏:‏ فكان بينهما كسائر النماء الحادث من أصلين والحق لهما لا يعدوهما ولا وجه لتحريمه عليهما ولا لتخصيص أحدهما به‏.‏ وإيجاب قسط مثله من الربح أصح من قول من يوجب أجرة المثل؛ فإن المال قد لا يكون له ربح وقد تكون أجرته أضعاف ربحه وبالعكس‏.‏ وليس المقصود من هذه المشاركات العمل حتى يستحق عليه أجرة ولا هي عقد إجارة؛ وإنما هي أصل مستقل وهي نوع من المشاركات لا من المؤاجرات حتى يبطل فيها ما يبطل فيها فمن أوجب فيها ما لا يجب فيها‏:‏ فقد غلط‏.‏ وإن كان جرى بين العامل والورثة من الكلام ما يقتضي في العرف أن يكون إبقاء لعقد المضاربة استحق المسمى له من الربح وكان ذلك مضاربة مستحقة‏.‏ وإذا أقر بالربح لزمه ما أقر به‏.‏ فإن ادعى بعد ذلك غلطا لا يعذر في مثله لم يقبل قوله‏.‏ وإن كان يعذر في مثله ففي قبوله خلاف مشهور وليس له أن يدفع المال إلى غيره إلا بإذن المالك أو الشارع‏.‏ ومتى فعل كان ضامنا للمال؛ سواء كان دفعه بعقد صحيح؛ أو فاسد‏.‏ فما ضمنه بالعقد الصحيح ضمن بالفاسد‏.‏ وما لم يضمن بالصحيح لم يضمن بالفاسد‏.‏ وأما إن كان المال غصبا فهو ضامن بكل حال ومتى فرط العامل في المال أو اعتدى فعليه ضمانه‏.‏ وكذلك العامل الثاني إذا جحد الحق أو كتم المال الواجب عليه أو طلب التزامهم إجارة لغير مسوغ شرعي أثم بذلك‏.‏ وعلى ولي الأمر إيصال الحقوق إلى مستحقيها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل دفع لرجل مالا على سبيل القراض ثم ظهر بعد ذلك على المدفوع له المال دين بتاريخ متقدم على القراض‏.‏ فهل يجوز له أن يعطي لأرباب الدين شيئا من هذا المال‏؟‏ أم لا‏؟‏ وإذا ادعى أنه لم يقبض من مال القراض شيئا أو عدم أو وقع فيه تفريط بغير سبب ظاهر يقبل هذا القول‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏ لا يجوز أن يوفي من مال هذا القراض شيئا من الدين الذي يكون على العامل؛ إلا أن يختار رب المال؛ فإن ادعى ما يخالف العادة لم يقبل بمجرد قوله‏.‏

 وسئل عن مضارب رفعه صاحب المال إلى الحاكم وطلب منه جميع المال وحكم عليه الحاكم بذلك فدفع إليه البعض وطلب منه الإنظار بالباقي فأنظره وضمن على وجهه فسافر المضارب عن البلد مدة‏.‏ فهل تبطل الشركة برفعه إلى الحاكم وحكم الحاكم عليه بدفع المبلغ وإنظاره‏؟‏ وهل يضمن في ذمته‏؟‏

فأجاب‏:‏ تنفسخ الشركة بمطالبته المذكورة ويضمن المال في ذمته بالسفر المذكور؛ بتأخير التسليم مع الإمكان عن وقت وجوبه‏.‏

 وسئل رحمه الله هل يجوز للعامل في القراض أن ينفق على نفسه من مال المقارض حضرا أو سفرا‏؟‏ وإذا جاز‏.‏ هل يجوز أن يبسط لذيذ الأكل‏.‏ والتنعمات منه‏؟‏ أم يقتصر على كفايته المعتادة‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ إن كان بينهما شرط في النفقة جاز ذلك‏.‏ وكذلك إن كان هناك عرف وعادة معروفة بينهم وأطلق العقد فإنه يحمل على تلك العادة‏.‏ وأما بدون ذلك فإنه لا يجوز ومن العلماء من يقول‏:‏ له النفقة مطلقا وإن لم يشترط كما يقوله أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول‏.‏ والمشهور أن لا نفقة بحال ولو شرطها‏.‏ وحيث كانت له النفقة فليس له النفقة إلا بالمعروف وأما البسط الخارج عن المعروف فيكون محسوبا عليه‏.‏

 وسئل رحمه الله عن اثنين اشتركا‏:‏ من أحدهما دابة ومن الآخر دراهم‏.‏ جعلا ذلك بينهما على ما قسم الله تعالى من ربح كان بينهما ثم ربحا‏.‏ فما الحكم‏؟‏

فأجاب‏:‏ ينظر قيمة البهيمة فتكون هي والدراهم رأس المال وذلك مشترك بينهما؛ لأن عندنا أن الشركة والقسمة تصح بالأقوال لا تفتقر إلى خلط المالين ولا إلى تمييزهما ويثبت الملك مشتركا بعقد الشركة كما يتميز بعقد القسمة والمحاسبة فما ربحا كان بينهما وإذا تقاسما بيعت الدابة واقتسما ثمنها مع جملة المال‏.‏ وهذا إذا صححنا الشركة بالعروض ظاهر وأما إذا أبطلناها فحكم الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه وصحة التصرف وفساده وإنما يفترقان في الحل وفي مقدار الربح على أحد القولين‏.‏ فظاهر مذهب أحمد على ما اشترطا وعلى القول الآخر يكون الربح تبعا للمال ويكون للآخر أجرة المثل والأصح في هذا أن له ربح المثل والأقوال ثلاثة‏.‏

 وسئل عن شريكين في فرس‏.‏ لا يتبايعان ولا يشتريان ولا يكون عند أحدهما مشاهرة والفرس تضيع بينهما وأن أحدهما أعارها بغير إذن شريكه فهلكت‏.‏ هل تلزم الشريك الذي أعار نصيب شريكه‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏ إذا لم يتفقا أن تكون عند أحدهما ولا عند ثالث يختارانه لها ولا طلب أحدهما مفاضلة الآخر فيها‏:‏ تباع جميع الفرس ويقسم ثمنها بينهما والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجلين بينهما شركة في فرس‏.‏ فأذن أحدهما للآخر في سيره؛ لئلا يضر به الوقوف ولم يأذن له في سوقه وأركب غيره فحصل له بذلك مرض‏.‏ فهل يلزمه إن مات‏؟‏ أو يلزمه أرشه بالنقص‏؟‏ وهل يلزمه ما يحتاج إليه من دواء‏؟‏ والشريك محجور عليه من جهة الحاكم وهو رشيد في تصرفه؛ غير أن المانع من ذلك بينة تشهد له وإذا كان الأمر كذلك‏:‏ فهل لشريكه أن يأخذ من ماله قيمته‏؟‏

فأجاب‏:‏ إذا كان الشريك قد اعتدى ففعل ما لم تأذن به الشريعة ولا المالك؛ لا لفظا ولا عرفا فهو ضامن لما تلف بجنايته وإن كان محجورا عليه فإن كانت الجناية نقصت الفرس ضمن النقص وإن وجب بتلف الفرس ضمنه جميعه‏.‏

 وسئل عن زيد وعمرو مشتركان في فرس وأخذ زيد الفرس وساقها غير العادة بغير إذن عمرو ثم بعد ذلك حصل للفرس ضعف فماتت تحت يد زيد‏؟‏

فأجاب‏:‏ نعم إذا اعتدى الشريك عليها فتلفت بسبب عدوانه ضمن نصيب شريكه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل شارك شخصا في بقرة وكانت عند أحدهما يستعملها ويعلفها وطلبها شريكه يفاضله فيها فأبى فادعى ثلثي البقرة ومنع المفاضلة‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ عليه أن يفاضله فيها وإذا طلب أحد الشريكين بيعها بيعت عليهما واقتسما الثمن وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وغيرهم‏.‏ وإذا كان الشريك يأخذ اللبن وكان اللبن بقدر العلف سواء فلا شيء عليه وإن كان انتفاعه بها أكثر من العلف أعطى شريكه نصيبه من الفضل‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن راع كان معه غنم خلطا واحتاجت إلى نفقة فباع بعضها وأنفقه على الباقي‏.‏ وكان المبيع مال بعضهم‏.‏ فمنهم من لم يبق من غنمه شيء‏.‏ ومنهم من بقي له قليل‏.‏ ومنهم كثير‏.‏ فهل يقتسمون على قدر رءوس الأموال‏؟‏ أم كل من بقي له شيء يأخذه‏؟‏

فأجاب رحمه الله‏:‏ بل يقتسمون الباقي على قدر رءوس الأموال أو يغرم أرباب الباقي ما أنفق عنهم وهو قيمة ما باعه‏.‏

 وسئل رحمه الله عن شريكين بينهم خيل وكان عند أحدهما فرس فماتت بقضاء الله وقدره وعمل بموتها محضرا‏؟‏

فأجاب‏:‏ إذا كان أحد الشريكين قد سلمها إلى الآخر، وتلفت تحت يده من غير تفريط منه ولا عدوان، فلا ضمان عليه‏.‏

 وسئل عن رجل له شريك في فرس، وهي تحت يد الشريك برضاه فوقع على البلد أمر من السلطنة وأخذت الفرس مع خيل أخر وقماش وقد قصد الشريك أن يضمن شريكه‏.‏ فهل له ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه بما ذكر‏.‏ والقول قوله مع يمينه في نفي التفريط والعدوان والحالة هذه‏.‏

وسئل عن رجل بينه وبين رجل شركة في بستان وأنه استأجر منه نصيبه بإجارة شرعية وأن الشريك الذي استأجر تعدى وقطع من أخشاب البستان شيئا له ثمر يغل بغير إذن المالك وهو حاضر واستعمل منها بواقي وأحطابا لغرضه‏.‏ فهل عليه الرجوع بما تعدى عليه‏؟‏ وهل للمالك أن يمسك أعوانه الذين تولوا قطع الخشب أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏ ليس له أن يأخذ نصيب شريكه مالم يستحقه بعقد الإجارة وما أخذه بذلك فعليه ضمانه لشريكه يضمن له نصيبه‏.‏ وللمالك أن يطالب بالضمان من باشر الأخذ ولا أن يطالب الشريك الآمر لهم فيأخذ حقه من أيهم شاء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن جماعة شهود اشتركوا فعمل بعضهم أكثر من بعض‏.‏ فهل يستحق الجماعة الجعالة بالسوية أو يستحقونها على قدر أعمالهم‏؟‏

فأجاب‏:‏ موجب عقد الشركة المطلقة التساوي في العمل والأجر‏.‏ فإن عمل بعضهم أكثر تبرعا بالزيادة ساووه في الأجر وإن لم يكن متبرعا طالبهم؛ إما بما زاد في العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله‏.‏ وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله‏:‏ عن جماعة دلالين مشتركين في بيع السلع‏.‏ هل يقدح ذلك في دينهم‏؟‏ وهل لولي الأمر - أعزه الله - منعهم من غير أن يظهر عليهم غش أو تدليس‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ أما إذا كان التاجر الذي يسلم ماله إلى الدلال قد علم أنه يسلمه إلى غيره من الدلالين ورضي بذلك لم يكن بذلك بأس بلا ريب؛ فإن الدلال وكيل التاجر‏.‏ والوكيل له أن يوكل غيره كالموكل باتفاق العلماء‏.‏ وإنما تنازعوا في جواز توكيله بلا إذن الموكل‏.‏ على قولين مشهورين للعلماء‏.‏ وعلى هذا تنازعوا في شركة الدلالين؛ لكونهم وكلاء‏.‏ فبنوا ذلك على جواز توكيل الوكيل‏.‏ وإذا كان هناك عرف معروف أن الدلال يسلم السلعة إلى من يأتمنه كان العرف المعروف كالشرط المشروط ولهذا ذهب جمهور أئمة المسلمين‏:‏ كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم إلى جواز ‏[‏شركة الأبدان‏]‏ كما قال ابن مسعود‏:‏ اشتركت أنا وسعد بن أبي وقاص وعمار يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء‏.‏ و ‏[‏شركة الأبدان‏]‏ في مصالح المسلمين في عامة الأمصار وكثير من مصالح المسلمين لا ينتظم بدونها‏.‏ كالصناع المشتركين في الحوانيت؛ من الدلالين وغيرهم؛ فإن أحدهم لا يستقل بأعمال الناس فيحتاج إلى معاون والمعاون لا يمكن أن تقدر أجرته وعمله كما لا يمكن مثله ذلك في المضاربة؛ ونحوها فيحتاجون إلى الاشتراك‏.‏ وجمهور العلماء يجعلون الشركة عقدا قائما بنفسه في الشريعة يوجب لكل من الشريكين بالعقد ما لا يستحقه بدون العقد كما في المضاربة ومنهم من لا يجعل شركة إلا شركة الأملاك فقط وما يتبعها من العقود فيمنع عامة المشاركات التي يحتاج الناس إليها كالتفاضل في الربح مع التساوي في المال وشركة الوجوه والأبدان وغير ذلك؛ ولكن قول الجمهور أصح‏.‏ وإذا اشترك اثنان كان كل منهما يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة‏.‏ فما عقده من العقود عقده لنفسه ولشريكه‏.‏ وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه‏.‏ وإذا علم الناس أنهم شركاء ويسلمون إليهم أموالهم جعلوا ذلك إذنا لأحدهم أن يأذن لشريكه وليس لولي الأمر المنع في مثل العقود والقبوض التي يجوزها جمهور العلماء ومصالح الناس وقف عليها مع أن المنع من جميعها لا يمكن في الشرع وتخصيص بعضها بالمنع تحكم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن تخبير الشراء مرابحة ولم يبين للمشتري أنه بالنسيئة فهل يحل ذلك‏؟‏ أم يحرم‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ أما البيع بتخبير الثمن فهو جائز سواء كان مرابحة أو مواضعة أو تولية أو شركة؛ لكن لا بد أن يستوي علم البائع والمشتري في الثمن‏.‏ فإذا كان البائع قد اشتراه إلى أجل فلا بد أن يعلم المشتري ذلك فإن أخبره بثمن مطلق ولم يبين له أنه اشتراه إلى أجل فهذا جائر ظالم‏.‏ وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما‏)‏‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل تاجر في حانوت‏.‏ اشترى قطعة قماش بأحد عشر وربع وبعد ما اشتراها جاءه رجل وأخبره أنه اشتراها بأحد عشر وربع وكسب نصفا فأخذها المشتري وتفارقا بالأبدان وبعد ساعة جاء المشتري وغصبه بردها وامتنع التاجر ولم يبين الفائدة فأبى المشتري فتنازعا على الفائدة‏.‏ فقال المشتري‏:‏ خذ مني ربعا وثمنا فقال التاجر للمشتري‏:‏ ابتعني بأحد عشر ونصف فقال‏:‏ عبارة نعم‏.‏ فهل يجوز أن يخبر بهذا الربع الزائد على المشتري الأول‏؟‏ ويحل له ذلك في وجه من الوجوه‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ ليس لصاحب السلعة أن يخبر بأنه اشتراها بذلك من غير بيان الحال؛ بل إن أراد أن يخبر بذلك فليبين أن المشتري لها أعادها إليه بنصف الربح؛ فإن هذا سواء كان بيعا أو إقالة ليس هو عند الناس بمنزلة الذي يشتري سرا مطلقا؛ لا سيما إن كان أكرهه على أخذها منه‏.‏ فإن من اشترى سلعة على وجه الإكراه لم يكن له أن يخبر بالثمن من غير بيان الحال باتفاق العلماء؛ إذ هذا من نوع الخيانة‏.‏ وقد تنازع العلماء فيما إذا باعها بربح ثم وجدها تباع في السوق فاشتراها هل عليه أن يسقط الأول من الثمن الثاني‏؟‏ أو يخبر بالحال‏؟‏ أو ليس عليه ذلك‏؟‏ على قولين‏.‏ والأول قول أبي حنيفة وأحمد وغيرهما‏.‏ فإذا كان في مثل هذه الصورة فكيف إذا قال فيها بدون الثمن‏؟‏ وكيف إذا كان كذلك على وجه الإكراه له‏؟‏ والبيع بتخبير الثمن أصله الصدق والبيان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما‏)‏‏.‏ فما كان من الأمور التي إذا اطلع المشتري عليها لم يشتر بذلك الثمن؛ كان كتمانه خيانة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل اشترى عشرة أزواج متاع جملة واحدة وأخبر بزوج على حكم ما اشتراه وقسم الثمن على الأزواج لا زائد ولا ناقص‏.‏ هل ذلك حلال‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إن أخبر بالاشتراء على وجهه فيذكر أنه اشتراها مع غيرها وأنه قسط الثمن على الجميع فجاء قسط هذا كذا وهذا كذا فإن هذا حقيقة الصدق والبيان‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما‏)‏ والله تعالى أعلم‏.‏

 باب المساقاة

 قال شيخ الإسلام رحمه الله

فصل

قد ذكرت فيما تقدم من القواعد التي فيها قواعد فقيهة ما جاء به الكتاب والسنة من قيام الناس بالقسط وتناول ذلك للمعاملات‏:‏ التي هي المعاوضات والمشاركات وذكرت أن ‏[‏المساقاة والمزارعة والمضاربة‏]‏ ونحو ذلك نوع من المشاركات وبينت بعض ما دخل من الغلط على من اعتقد أن ذلك من المعاوضات كالبيع والإجارة حتى حكم فيها أحكام المعاوضات‏.‏ وبينت جواز المزارعة ببذر من المالك أو من العامل كما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس الجلي وبينت أن حديث رافع بن خديج وغيره في النهي عن المخابرة وعن كراء الأرض أن ما معناه‏:‏ ما كانوا يفعلونه من اشتراط زرع بقعة معينة لرب الأرض كما بينه رافع بن خديج في الصحيحين أيضا‏.‏ ومن سمى المعاملة ببذر من المالك مزارعة ومن العامل مخابرة‏:‏ فهو قول لا دليل عليه؛ بمنزلة الأسماء التي سماها هؤلاء وآباؤهم لم ينزل الله بها سلطانا‏.‏ فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم‏)‏‏.‏ والمخابرة المنهي عنها لم يكن فيها بذر من العامل‏.‏ والمقصود هنا‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض فيها زرع مكان بعينه والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد - وهو في البخاري - أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيء إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه حرام أو كما قال‏.‏ وذلك لأن المشاركة والمعاملة تقتضي العدل من الجانبين فيشتركان في المغنم والمغرم بعد أن يسترجع كل منهما أصل ماله فإذا اشترط لأحدهما زرع معين كان فيه تخصيصه بذلك وقد لا يسلم غيره فيكون ظلما لأحد الشريكين وهو من الغرر والقمار أيضا‏.‏ ففي معنى ذلك ما قاله العلماء وما أعلم فيه مخالفا‏:‏ أنه لا يجوز أن يشترط لأحدهما ثمرة شجرة بعينها ولا مقدارا محدودا من الثمر وكذلك لا يشترط لأحدهما زرع مكان معين ولا مقدارا محدودا من نماء الزرع وكذلك لا يشترط لأحدهما ربح سلعة بعينها ولا مقدارا محدودا من الربح‏.‏ فأما اشتراط عود مثل رأس المال فهو مثل اشتراط عود الشجر والأرض‏.‏ وفي اشتراط عود مثل البذر كلام ذكرته في غير هذا الموضع فإذا كان هذا في تخصيص أحدهما بمعين أو مقدار من النماء حتى يكون مشاعا بينهما؛ فتخصيص أحدهما بما ليس من النماء أولى‏:‏ مثل أن يشترط أحدهما على الآخر أن يزرع له أرضا أخرى أو يبضعه بضاعة يختص ربها بربحها أو يسقي له شجرة أخرى ونحو ذلك مما قد يفعله كثير من الناس‏.‏ فإن العامل لحاجته قد يشترط عليه المالك نفعه في قالب آخر فيضاربه ويبضعه بضاعة أو يعامله على شجر وأرض ويستعمله في أرض أخرى أو في إعانة ماشية له أو يشترط استعارة دوابه أو غير ذلك؛ فإن هذا لا يجوز شرطه بلا نزاع أعلمه بين العلماء‏.‏ فإنه في معنى اشتراط بمعين أو بقدر من الربح؛ لأنه إذا اشترط منفعته أو منفعة ماله اختص أحدهما باستيفاء هذه المنفعة وقد لا يحصل نماء أو يحصل دون ما ظنه فيكون الآخر قد أخذ منفعته بالباطل وقامره وراباه فإن فيه ربا وميسرا‏.‏ فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فهو كالشرط في العقد على ما قررناه في ‏[‏كتاب بطلان التحليل‏]‏‏:‏ إن الشرط المتقدم على العقد كالمقارن له‏.‏ فإن تبرع أحدهما بهدية إلى الآخر مثل أن يهدي العامل في المضاربة إلى المالك شيئا أو يهدي الفلاح غنما أو دجاجا أو غير ذلك‏:‏ فهذا بمنزلة إهداء المقترض من المقرض يخير المالك فيها بين الرد وبين القبول والمكافأة عليها بالمثل وبين أن يحسبها له من نصيبه من الربح إذا تقاسما كما يحسبه من أصل القرض‏.‏ وهذا ينازعنا فيه بعض الناس‏.‏ ويقول متبرع بالإهداء؛ وليس كذلك؛ بل إنما أهداه لأجل المعاملة التي بينهما من القرض والمعاوضة ونحو ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العامل الأزدي ابن اللتبية لما قال‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي إلي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفلا قعد في بيت أبيه وأمه‏.‏ فينظر أيهدى إليه أم لا‏)‏ وثبت عن عدد من الصحابة كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم‏:‏ أنهم أمروا المقرض الذي قبل الهدية أن يحسبها من قرضه‏.‏ وهذا ظاهر في الاعتبار فإنه إذا قبل الهدية قبل الاستيفاء فقد دخل معه على أن يأخذ الهدية وبدل القرض عوضا عن القرض وهذا عين الربا؛ فإن القرض لا يستحق به إلا مثله‏.‏ ولو قال له وقت القرض‏:‏ أنا أعطيك مثله وهذه الهدية‏:‏ لم يجز بالإجماع‏.‏ فإذا أعطاه قبل الوفاء الهدية التي هي من أجل القرض على أن يوفيه معها مثل القرض كان ذلك معاقدة على أخذ أكثر من الأصل؛ ولهذا لو أهدى إليه على العادة الجارية بينهما قبل القرض لم يكن كذلك‏.‏ يبين ذلك أنه بقبول الهدية يريد أن ينظره لأجلها فيصير بمائة والهدية بمائة إلى أجل وهذا عين الربا؛ بخلاف المائة بمائة مثلها في الصفة‏.‏ ولو شرط فيها الأجل؛ فإن هذا تبرع محض ليس بمعاوضة؛ إذ العاقل لا يبيع الشيء بما يساويه من كل وجه إلى أجل وإنما يفعل ذلك عند اختلاف الصفة كبيع الصحاح بالمكسرة ونقد بنقد آخر إلى أجل وذلك لا يجوز باتفاق المسلمين‏.‏ وهكذا الأمر في المشاركة‏:‏ فإنه إذا قبل هدية العامل ونفعه الذي إنما بذله لأجل المضاربة والمزارعة بلا عوض مع اشتراطه النصيب من الربح‏:‏ كان هذا القبول على هذا القول معاقدة على أن يأخذ مع النصيب الشائع شيئا غيره؛ بمنزلة زرع مكان معين‏.‏ وقد لا يحصل ربح فيكون العامل مقهورا مظلوما؛ ولهذا يطلب العامل بدل هديته ويحتسب بها على المالك فإن لم يعوضه عنها وإلا خانه في المال‏:‏ أصله وربحه كما يجري مثل ذلك بين المزارع والفلاح؛ فإن الفلاح يخونه ويظلمه لما يزعم أن المزارع يختص به من ماله ونحوه‏:‏ كأخذ الهدايا‏.‏ وأكله هو ودوابه من ماله مدة بغير حق فيقرض السنبل قبل الحصاد ويترك الحب في القصب والتبن وفي عفارة البيدر ويسرق منه ويحتال على السرقة بكل وجه والمزارع يظلمه في بدنه بالضرب والاستخدام وفي ماله بالاستنفاق الذي لا يستحقه ويرى أن هذا بإزاء ما اختانه من ماله‏.‏ وكذلك يجري بين مالك المال والعامل‏:‏ العامل يرى أنه يأخذ نفعه وماله فإنه لا بد له من هدايا ومن بضائع معه يتجر له فيها فيخصه بالربح لأجل المضاربة فيريد أن يعتاض عن نفعه وماله فيخون في المال والربح ويكذب ويكتم والمالك يرى أن العامل يخون في المال والربح ويخرج من ماله بالإنفاق على مال له آخر أو بالإهداء إلى أصدقائه ونحو ذلك مما ليس نفعه لأجل المضاربة فيطالبه بالهدايا ونحو ذلك‏.‏ حتى إن من العمال من لا يهدي إلا لعلمه بأن المالك يطلب ذلك ويؤثره فيتقي بذلك شره وظلمه‏.‏ وتفضي هذه المعاملات إلى المخاصمة والعداوة والظلم في النفوس والأعراض والأموال‏.‏ وسبب ذلك اختصاص أحدهما بشيء خارج عن النصيب المشاع من النماء فإن هذا خروج عن العدل الواجب في المشاركات‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفلا قعد في بيت أبيه وأمه‏.‏ فينظر أيهدى إليه‏.‏ أم لا‏؟‏‏)‏ يتناول هذه المعاني جميعها فإن الهدية إذا كانت لأجل سبب من الأسباب كانت مقبوضة بحكم ذلك السبب كسائر المقبوض به؛ فإن العقد العرفي كالعقد اللفظي‏.‏ ومن أهدي له لأجل قرض أو إقراض كانت الهدية كالمال المقبوض بعقد القرض والقراض إذا لم يحصل عنها مكافأة‏.‏ وهذا أصل عظيم يدخل بسبب إهماله من الظلم والفساد شيء عظيم‏.‏

 فصل

وكما قلنا في المقبوض‏:‏ إنه قبل الوفاء ليس له أن يأخذ منه مالا ولا نفعا قبل الوفاء بغير عوض مثله؛ لما فيه من الربا فالإهداء والإعارة من نوع فكذلك في المضاربة والمزارعة؛ متى أخذ رب المال مالا أو نفعا قبل الاقتسام التام لم يجز إلا بعوض مثله‏:‏ مثل استخدام العامل والفلاح في غير موجب عقد المشاركة أو الانتفاع بماله أو غير ذلك إلا أن يحتسب له ذلك كله والله سبحانه أعلم‏.‏ ولهذا تنازع الفقهاء‏.‏ لو أعطاه عرضا فقال‏:‏ بعه وضارب بثمنه‏.‏ فقيل‏:‏ لا يجوز؛ لأن المالك يختص بمنفعته قبل المضاربة فهو كما لو شرط عليه بيع سلعة أخرى‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز؛ لأن هذا البيع مقصوده مقصود المضاربة فأشبه البيع الحاصل بعد العقد والمال أمانة بيده في الموضعين وليس للمالك منفعة يختص بها زائدة على مقصود المضاربة‏.‏ وفي المسألة نظر‏.‏

وقال قدس الله روحه

 فصل

وأما ‏[‏المزارعة‏]‏‏:‏ فإذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض‏.‏ أو كان من شخص أرض ومن آخر بذر ومن ثالث العمل ففي ذلك روايتان عن أحمد‏.‏ والصواب أنها تصح في ذلك كله‏.‏ وأما إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالصحة مما إذا كان البذر من المالك‏.‏‏(‏فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع‏)‏ ‏[‏رواه البخاري وغيره‏.‏ وقصة أهل خيبر هي الأصل في جواز المساقاة والمزارعة‏]‏ ‏[‏وإنما كانوا يبذرون من أموالهم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم بذرا من عنده وهكذا خلفاؤه من بعده‏:‏ مثل عمر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغير واحد من الصحابة‏.‏ كانوا يزارعون ببذر من العامل‏.‏ وقد نص الإمام أحمد في رواية عامة أصحابه في أجوبة كثيرة جدا على أنه يجوز أن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها واحتج على ذلك بقصة أهل خيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم عليها ببعض الخارج منها‏.‏ وهذا هو معنى إجارتها ببعض الخارج منها إذا كان البذر من العامل؛ فإن المستأجر هو الذي يبذر الأرض وفي الصورتين للمالك بعض الزرع‏.‏ ولهذا قال من حقق هذا الموضع من أصحابه كأبي الخطاب وغيره‏:‏ إن هذا مزارعة على أن البذر من العامل‏.‏ وقالت طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره‏:‏ بل يجوز هذا العقد بلفظ الإجارة ولا يجوز بلفظ المزارعة؛ لأنه نص في موضع آخر‏:‏ أن المزارعة يجب أن يكون فيها البذر من المالك‏.‏ وقالت طائفة ثالثة‏:‏ بل يجوز هذا مزارعة ولا يجوز مؤاجرة؛ لأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة في أحد الوجهين؛ ولأن هذا يشبه قفيز الطحان‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه نهى عن قفيز الطحان‏)‏ وهو‏:‏ أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق‏.‏ والصواب‏:‏ هو الطريقة الأولى؛ فإن الاعتبار في العقود بالمعاني والمقاصد؛ لا بمجرد اللفظ‏.‏ هذا أصل أحمد وجمهور العلماء وأحد الوجهين في مذهب الشافعي؛ ولكن بعض أصحاب أحمد قد يجعلون الحكم يختلف بتغاير اللفظ كما قد يذكر الشافعي ذلك في بعض المواضع وهذا كالسلم الحال في لفظ البيع والخلع بلفظ الطلاق والإجارة بلفظ البيع ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن المزارعة يشترط فيها أن يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية ولا أثر عن الصحابة؛ ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة‏.‏ قالوا‏:‏ كما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص والمال من شخص فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد والمال من واحد والبذر من رب المال‏.‏ وهذا قياس فاسد؛ لأن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فنظيره الأرض أو الشجر يعود إلى صاحبه ويقتسمان الثمر والزرع وأما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه؛ بل يذهب بلا بدل كما يذهب عمل العامل وعمل بقره بلا بدل؛ فكان من جنس النفع لا من جنس المال وكان اشتراط كونه من العامل أقرب في القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن منهم من كان يزارع والبذر من العامل وكان عمر يزارع على أنه إن كان البذر من المالك فله كذا وإن كان من العامل فله كذا‏.‏ ذكره البخاري‏.‏ فجوز عمر هذا‏.‏ وهذا هو الصواب‏.‏ وأما الذين قالوا‏:‏ لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان فيقال‏:‏ هذا الحديث باطل لا أصل له وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة‏.‏ وأيضا فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكيال يسمى القفيز وإنما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا وغيره مما يبين أن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا؛ قولا باجتهادهم‏.‏ والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق؛ بل عن شيء مسمى‏:‏ وهو القفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها أو شيئا مقدرا كانت المزارعة فاسدة‏.‏ وهذا هو المزارعة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج في حديثه المتفق عليه‏:‏ ‏(‏أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏)‏ ‏]‏‏.‏ وقد بسط الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع‏.‏ وبين أن المزارعة أحل من المؤاجرة بأجرة مسماة‏.‏ وقد تنازع المسلمون في الجميع؛ فإن المزارعة مبناها على العدل‏:‏ إن حصل شيء فهو لهما وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان‏.‏ وأما الإجارة فالمؤجر يقبض الأجرة والمستأجر على خطر‏:‏ قد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل؛ فكانت المزارعة أبعد عن المخاطرة من الإجارة؛ وليست المزارعة مؤاجرة على عمل معين حتى يشترط فيها العمل بالأجرة؛ بل هي من جنس المشاركة‏:‏ كالمضاربة ونحوها‏.‏ وأحمد عنده هذا الباب هو القياس‏.‏ ويجوز عنده أن يدفع الخيل والبغال والحمير والجمال إلى من يكاري عليها والكراء بين المالك والعامل وقد جاء في ذلك أحاديث في سنن أبي داود وغيره‏.‏ ويجوز عنده أن يدفع ما يصطاد به‏:‏ الصقر والشباك والبهائم وغيرها إلى من يصطاد بها وما حصل بينهما‏.‏ ويجوز عنده أن يدفع الحنطة إلى من يطحنها وله الثلث أو الربع‏.‏ وكذلك الدقيق إلى من يعجنه والغزل إلى من ينسجه والثياب إلى من يخيطها بجزء في الجميع من النماء‏.‏ وكذلك الجلود إلى من يحذوها نعالا وإن حكي عنه في ذلك خلاف‏.‏ وكذلك يجوز عنده - في أظهر الروايتين - أن يدفع الماشية إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها ويدفع دود القز والورق إلى من يطعمه ويخدمه وله جزء من القز‏.‏ وأما قول من فرق بين المزارعة والإجارة بأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة فيقال له‏:‏ هذا ممنوع؛ بل إذا زارعه حولا بعينه فالمزارعة عقد لازم كما تلزم إذا كانت بلفظ الإجارة والإجارة قد لا تكون لازمة كما إذا قال‏:‏ آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمين؛ فإنها صحيحة في ظاهر مذهب أحمد وغيره وكلما دخل شهر فله فسخ الإجارة‏.‏ والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدا لازما‏.‏ فالعقد المطلق الذي لا وقت له لا يكون لازما وأما المؤقت فقد يكون لازما‏.‏

 فصل

وأما إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها‏:‏ كإجارة الأرض لمن يزرعها حنطة أو شعيرا بمقدار معين من الحنطة والشعير‏:‏ فهو أيضا جائز في أظهر الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وفي الأخرى ينهى عنه كقول مالك‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المقصود بالإجارة هو الطعام فهو في معنى بيعه بجنسه‏.‏ وقالوا‏:‏ هو من المخابرة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو في معنى المزابنة؛ لأن المقصود بيع الشيء بجنسه جزافا‏.‏ والصحيح قول الجمهور؛ لأن المستحق بعقد الإجارة هو الانتفاع بالأرض؛ ولهذا إذا تمكن من الزرع ولم يزرع وجبت عليه الأجرة والطعام إنما يحصل بعمله وبذره‏.‏ وبذره لم يعطه إياه المؤجر فليس هذا من الربا في شيء‏.‏ ونظير هذا‏:‏ أن يستأجر قوما ليستخرجوا له معدن ذهب أو فضة أو ركازا من الأرض بدراهم أو دنانير فليس هذا كبيع الدراهم بدراهم‏.‏ وكذلك من استأجر من يشق الأرض ويبذر فيها ويسقيها بطعام من عنده وقد استأجره على أن يبذر له طعاما‏.‏ فهذا مثل ذلك‏.‏ والمخابرة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم قد فسرها رافع راوي الحديث بأنها المزارعة التي يشترط فيها لرب الأرض زرع بقعة بعينها؛ ولكن من العلماء من جعل المزارعة كلها من المخابرة كأبي حنيفة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ المزارعة على الأرض البيضاء من المخابرة كالشافعي‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ المزارعة على أن يكون البذر من العامل من المخابرة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ كراء الأرض بجنس الخارج منها من المخابرة كمالك‏.‏ والصحيح أن المخابرة المنهي عنها كما فسرها به رافع بن خديج وكذلك قال الليث بن سعد‏:‏ الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه محرم‏.‏ وهذا مذهب عامة فقهاء الحديث‏:‏ كأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله في كتابه؛ فإن الله حرم في كتابه الربا والميسر وحرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الغرر فإنه من نوع الميسر وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة‏.‏ وحرم صلى الله عليه وسلم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل وغير ذلك مما يدخل في الربا‏.‏ فصار بعض أهل العلم يظنون أنه دخل في العام أو علته العامة أشياء وهي غير داخلة في ذلك‏.‏ كما أدخل بعضهم ضمان البساتين حولا كاملا أو أحوالا لمن يسقيها ويخدمها حتى تثمر فظنوا أن هذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها فحرموه؛ وإنما هذا من باب الإجارة‏:‏ كإجارة الأرض‏.‏ فلما نهى عن بيع الحب حتى يشتد وجوز إجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى تنبت‏.‏ وكذلك نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولم ينه أن تضمن لمن يخدمها حتى تثمر ويحصل الثمر بخدمته على ملكه وبائع الثمر والزرع عليه سقيه إلى كمال صلاحه خلاف المؤجر فإنه ليس يسقي ما للمستأجر من ثمر وزرع؛ بل سقي ذلك على الضامن المستأجر‏.‏ وعمر بن الخطاب ضمن حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين وتسلف كراءها فوفى به دينا كان عليه‏.‏ ونظائر هذا الباب كثيرة‏.‏

 وسئل هل تصح المزارعة أم لا‏؟‏ وإذا فرط المزارع في نصف فدان فحلف رب الأرض بالطلاق الثلاث ليأخذن عوضه من الزرع الطيب‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ المزارع بثلث الزرع أو ربعه أو غير ذلك من الأجزاء الشائعة‏:‏ جائز بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو قول محققي الفقهاء‏.‏ وإذا كان العامل قد فرط حتى فات بعض المقصود فأخذ المالك مثل ذلك من أرض أخرى وجعل ذلك له بحيث لا يكون فيه عدوان لم يحنث في يمينه ولا حنث عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل سلم أرضه إلى رجل ليزرعها ويكون الزرع بينهما بالسوية والبذر من الزارع؛ لا من رب الأرض‏.‏ فهل يجوز ذلك ويكون بينهما شركة‏؟‏ أو لا يجوز‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ هذا جائز في أصح قولي العلماء وبه مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وغيرهم من أصحابه‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها‏:‏ من زرع وثمر‏.‏ على أن يعمروها من أموالهم‏.‏ فهذه مشاطرة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والبذر من العامل لا من رب الأرض‏.‏ وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون‏:‏ مثل آل أبي بكر وآل علي بن أبي طالب ومثل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود‏.‏ والذين خالفوا ذلك لهم مأخذان ضعيفان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم ظنوا أن المزارعة مثل المؤاجرة وليست من باب المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة يقصد منها عمل العامل ويكون العمل معلوما؛ بل يشتركان هذا بمنفعة أرضه وهذا بمنفعة بدنه وبقره كسائر الشركاء‏.‏ وأما ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة فقد جاء مفسرا في الصحيح أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة؛ فلهذا نهى عنها‏.‏ ومن اشترط أن يكون البذر من المالك فإنه شبهها بالمضاربة التي يشترط أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر وظن أن البذر يكون من رب الأرض وكلاهما مال‏.‏ وهذا غلط؛ فإن رأس المال يعود في هذه العقود إلى صاحبه كما يعود رأس المال في المضاربة والأرض في المزارعة والأرض والشجر في المساقاة‏.‏ والعامل إذا بذر البذر وأماته فلم يأخذ مثله صار البذر يجري مجرى المنافع التي لا يرجع بمثلها ومن اشترط أن يكون البذر من المالك ولا يعود فيه فقوله في غاية الفساد؛ فإنه لو كان كرأس المال لوجب أن يرجع في نظيره كما يقول مثل ذلك في المضاربة

 وسئل رحمه الله عن رجل له أرض مزروعة وغيرها وجاء من يزرعها له مشاطرة والبذر وسائر ما يلحق الزرع من الأجر حتى إذا أخذ الحصادون شيئا أخذ صاحب الأرض مثله ونصف التبن أيضا‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز سواء كان البذر من رب الأرض أو من العامل‏.‏ وهذا هو الصواب الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين‏.‏ فإن ‏(‏النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم‏)‏ وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين‏.‏ وجواز المزارعة على الأرض البيضاء هو مذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد والمحققين من أصحاب الشافعي العلماء بالحديث وبعض أصحاب مالك وغيرهم‏.‏ وكذلك يجوز على أصح القولين في مذهب أحمد وغيره أن يكون البذر من العامل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر وتشبيه ذلك بمال المضاربة فاسد؛ فإن البذر لا يعود إلى باذره كما يعود مال المالك‏.‏ والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة هو أنهم كانوا يعاملون ويشترطون للمالك منفعة معينة من الأرض وهذا باطل بالاتفاق‏.‏ كما لو اشترط دراهم مقدرة في المضاربة أو ربح صنف بعينه من السلع‏.‏ والمساقاة والمزارعة والمضاربة ليست من أنواع الإجارة التي يشترط فيها تقدير العمل والأجرة فإن تلك يكون المقصود فيها العمل؛ وإنما هي من جنس المشاركة فإنهما يشتركان بمنفعة بدن هذا ومنفعة مال هذا وهما مشتركان في المغنم والمغرم‏.‏ وكان آل أبي بكر يزارعون وآل عمر يزارعون وآل ابن مسعود يزارعون وهذا عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى اليوم‏.‏ وهي كانت فيهم أظهر من كراء الأرض بالدراهم والدنانير فإنها أبعد عن الظلم والغرور وأقرب إلى العدل الذي ثبتت عليه المعاملات‏.‏ وأما مؤنة الحصادين فعلى من اشترطاه؛ إن اشترطا المؤنة عليهما فهي عليهما وإن شرطاها على أحدهما فهي عليه وفي الإطلاق نزاع‏.‏ ولهما اقتسام الحب والتبن والله أعلم‏.‏

 وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضا بجزء من زرعها وتسلمها ولم يزرعها‏.‏ فهل للمالك عليه أجرة المثل‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ هذه مختلف في صحتها‏.‏ وظاهر المذهب عندنا صحتها ثم سواء سميت إجارة أو مزارعة‏:‏ فأحمد يصححها في غالب نصوصه وسماها إجارة وقال أبو الخطاب وغيره‏:‏ هي المزارعة ببذر العامل‏.‏ وأما القاضي وغيره فصححوها وأبطلوا المزارعة ببذر من العامل‏.‏ وإذا كانت صحيحة ضمنت بالمسمى الصحيح‏.‏ وهنا ليس هو في الذمة فينظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه‏.‏ وإذا جعلناها مزارعة وصححناها فينبغي أن تضمن بمثل ذلك؛ لأن المعنى واحد وإن أفسدناها وسميناها إجارة ففي الواجب قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أجرة المثل وهو ظاهر قول أصحابنا وغيرهم‏.‏ والثاني‏:‏ قسط المثل وهذا هو التحقيق‏.‏ وأجاب بعض الناس‏:‏ أن هذه إجارة فاسدة فيجب بالقبض فيها أجرة المثل‏.‏